كاوه محمود
هذا العام، أحيت الجماعة الدولية والرأي العام التقدمي في العالم الذكرى الثمانين للانتصار على النازية والفاشية. وعلى الرغم من أن معظم المراكز الرأسمالية في الغرب والولايات المتحدة تعاملت مع هذه المناسبة بنوع من اللامبالاة، إلا أنه يمكن اعتبار هذا التجاهل جزءًا من منطقٍ وخصوصية واقعٍ ما يزال حتى الآن عاجزًا عن الاستفادة اللازمة من دروس الحرب العالمية الثانية وكوارثها، وعن إدراك القيمة الجوهرية للسلام المستدام كضمان للتعايش والسلم العالمي والتنمية المشتركة لشعوب الإنسانية كافة، وتحييد مخاطر الحرب.
ورغم مرور ثمانين عامًا على نهاية الحرب العالمية الثانية والانتصار على الفاشية، وبروز نظام دولي جديد مختلف عن النظام السابق، تجسد في تأسيس الأمم المتحدة وإقرار عدد من الوثائق المهمة لتنظيم العلاقات الدولية وحقوق الإنسان، ووضع قواعد النظام الدولي الجديد، إلا أن هذه العقود الثمانية لم تكن مرحلة نموذجية في تنظيم العلاقات بين الشعوب أو في بناء نظام دولي متوازن. بل يمكن القول إن برنامجًا يعبّر عن الطموحات والآمال الإنسانية في بناء عالم يسوده السلام والأمن والتقدم لم يتحقق بعد. والدليل على ذلك أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، اندلعت أكثر من 250 حربًا وصراعًا مسلحًا بمختلف الأشكال. وهكذا، قامت المنظومة الدولية المهيمنة بنقل أزمات القرن العشرين إلى القرن الحادي والعشرين، فيما غرق العالم مجددًا في موجة من العنف وأساليب القوة والتهديد باستخدامها. هذه التوجهات كانت سببًا رئيسيًا في فشل مشاريع التنمية، وتفاقم نسب البطالة والفقر، وتدهور البيئة على المستوى العالمي. وفي هذا السياق، أعلنت الأمم المتحدة نفسها وبشكل صريح عن عجزها في معالجة الأزمات.
من هنا، فإن القراءة الواقعية لهذا المشهد تؤكد وجود أزمة تهدد البشرية جمعاء، وتفرض البحث عن بديلٍ مناسب يحمي الإنسانية باعتباره حاجة تاريخية ملحة.
في ضوء هذه القراءة للواقع الدولي، تقدّم الصين، عبر مبادرة "الحوكمة العالمية" التي طرحها الرئيس شي جين بينغ، خارطة طريق وبرنامجًا جديدًا للمجتمع الدولي يهدف إلى وضع حد لمظاهر العودة إلى أسس الحرب الباردة واستمرار الأحادية القطبية. هذه المبادرة، التي تستكمل مبادرات شي الأخرى في مجالات الأمن المشترك والتنمية المشتركة والحوار بين الحضارات، تُطرح كالمبادرة الرابعة في سياق مشروع "بناء مجتمع المصير المشترك للبشرية"، وتشكل امتدادًا لسياسة التحديث الصينية في إطار بناء الاشتراكية ذات الخصوصية الصينية في العصر الجديد، كما تمثل جزءًا من الرؤية الفكرية الصينية التي يتم تطويرها في سياق السياسة الداخلية للدولة.
المحاور الرئيسية لمبادرة "الحوكمة العالمية" تتمثل في إصلاح النظام الدولي من خلال إعادة هيكلة آليات عمل الأمم المتحدة، بما يتيح تمثيلًا أفضل للدول النامية، وتحقيق التوازن بين الشمال والجنوب، وسد الفجوات التنموية، وتعزيز التعاون في مجالات الطاقة والغذاء وحماية البيئة، وضمان الأمن المشترك عبر مبادرات الأمن الجماعي، وإنهاء ظواهر الحرب الباردة ووجود الكتل العسكرية.
أما المبادئ الأساسية للمبادرة التي أعلنها الرئيس شي في 11 أيلول/سبتمبر 2025 في مدينة تيانجين خلال اجتماع "منظمة شنغهاي للتعاون"، فتتمثل في:
1. المساواة في السيادة: بحيث تتمتع جميع الدول، كبيرة كانت أم صغيرة، قوية أم ضعيفة، غنية أم فقيرة، بحقوق والتزامات متساوية، وبمشاركة عادلة في الحوكمة الدولية والاستفادة المتساوية من ثمارها.
2. الالتزام بسيادة القانون الدولي: عبر احترام مقاصد ومبادئ الأمم المتحدة، واللجوء إلى القانون الدولي في حل النزاعات، والابتعاد عن فرض قوانين داخلية لدولة على المجتمع الدولي.
3. تعزيز التعددية الحقيقية: من خلال تفعيل آليات التشاور الشامل، وتوسيع نطاق المشاركة المشتركة في المسؤوليات والنتائج، ودعم الأمم المتحدة باعتبارها المنصة المركزية للحوكمة العالمية.
4. النهج القائم على الانسنة ومصالح الشعوب: بحيث يكون رفاه الشعوب محور الحوكمة العالمية، ويجري العمل على تقليص الفجوة التنموية بين الشمال والجنوب.
5. التركيز على النتائج العملية: بحيث لا تظل المبادرة مجرد شعارات أو خطابات، بل تتحول إلى مشاريع عملية وأهداف ملموسة يستفيد منها الجميع.
ورغم أن بعض التيارات الشعبوية اليسارية قد تنظر بريبة إلى هذه المبادرة أو تعتبرها مجرد إطار نظري، فإن دعم الرأي العام التقدمي والقوى اليسارية عالميًا لهذه الخطوة يعكس توجهًا نحو تجاوز الأحادية القطبية، وتقديرًا للقيمة الإنسانية المشتركة، وإيمانًا بإمكانية تحقيق نقلة نوعية في العلاقات الدولية.
إن المبادرات الأربع التي طرحها الرئيس شي تشكل في جوهرها أدوات لتسوية النزاعات وتقليل التوترات، عبر تعزيز المشاركة الجماعية في مواجهة النزعة الإمبريالية وأهدافها الساعية إلى إعادة تقسيم العالم وفق مصالحها الضيقة.